نشأته
ولد في مدينة الإسكندرية من أبوين وثنيين صارا فيما بعد مسيحيين وأدخلا ابنهما ياروكلاس المدرسة اللاهوتية ليدرس العلوم بها، فتتلمذ هو وأخوه للعلامة أوريجينوس، مع أنه كان يكبر عنه في السن
درس الأفلاطونية الحديثة قبل معلمه أوريجينوس، على يدي أمونيوس السقاس. فقد جاء في إحدى شذرات رسالة لأوريجينوس: "وقابلت الأخير (هيراقلاس) في بيت مدرس العلوم الفلسفية، إذ كان قد درس لمدة خمسة أعوام قبل أن أبدأ أنا في حضور هذه المحاضرات. في ذلك الوقت كان هيراقلاس قد زهد الملابس العادية التي كان يلبسها قبلاً، وارتدى زي الفلاسفة، والذي مازال يلبسه حتى اليوم. مستمرًا في دراسة كتب اليونانيين قدر الاستطاعة .أُعجب به أوريجينوس لشدة شغفه وتحصيله للعلم إلى درجة كبيرة. ونظرًا لأن أوريجينوس كان ذائع الصيت ودائرة اهتمامه بالمدرسة اللاهوتية في زيادة مطردة واتسعت خدمته إلى أبعد مدى يمكن الوصول إليه وجد أن خير من يعاونه على نشر الإيمان الأقدس هو ياروكلاس. وصفه المؤرخ يوسابيوس هكذا: "وكرس حياته لدراسة الكتاب المقدس، هو أحد الرجال المتعلمين العظماء لا يجهل الفلسفة".
القبض عليه
لم يكد أوريجينوس ينجح في عمله حتى قبض أكويلا والي مصر بأمر كاراكلا قيصر على خمسة من تلاميذ أوريجينوس، وبعد أن عُذِّبوا عذابًا شديدًا حكم عليهم بالموت السريع لأنهم أبوا أن ينكروا إيمانهم. وكان بين الخمسة اثنان باسم ساويرس أحدهما أحرق والآخر قطعت رأسه بعد أن عذب طويلاً، وهيراكليدس وهارون قطعت رأسيهما أيضًا. أما الخامس فكان ياروكلاس الذي لم يتركه أوريجينوس عند القبض عليه بل رافقه إلى موضع الإعدام. ولما شاهد الجنود يقتربون من ياروكلاس تقدم إليه بشجاعة وقبَّله قبلة الوداع على مشهد من الجميع، فاغتاظ منه الرعاع وهمّوا برجمه ولكنه أسرع بالهرب، ويبدو أن مطاردتهم له مكنت ياروكلاس من الفرار بطريقةٍ ما.
عميد مدرسة الإسكندرية
نظرًا لرحيل أوريجينوس إلى قيصرية فلسطين وتركه للمدرسة اللاهوتية أقام البابا ديمتريوس ياروكلاس رئيسًا بدلاً منه. اكتشف القديس ديمتريوس البابا السكندري إمكانيات هيراقلاس الروحية في الكرازة وقدرته على تعليم الموعوظين وإرشاد المؤمنين فسامه قسًا فقمصًا، وسمح له أن يعظ في الكاتدرائية بالإسكندرية حتى يتمتع به الشعب الذي لم يتمكن من سماعه من خلال المدرسة اللاهوتية. وكان هذا الاختيار من البابا قد صادف أهله حيث أن ياروكلاس كان يمتلك من المواهب والإمكانيات الإنسانية ما مكّنه من التأثير المباشر العميق في نفوس الشعب لعذوبة وحلاوة حديثة وقوة منطقه وسلاسة عباراته حتى أن اللَّه أراد أن يفرحه بهذه المواهب والإمكانيات فجعله يكتسب عددًا ليس بقليل من الوثنيين وأدخلهم إلى المسيحية بقوة وعمق، كما أظهر حبًا فائقًا في خدمته للمؤمنين.
بابا الإسكندرية
فى عام 224م اُختير خليفة للقديس ديمتريوس بابا الإسكندرية. وعمل البابا ياروكلاس على رد الكثيرين وإعداد الداخلين في المسيحية، وقد كرس تعبه وجهوده على التعليم والوعظ وإرشاد المخالفين فرعى رعية المسيح أحسن رعاية وأفضل تدبير.
مواجهة الاضطهاد
لفترة باباويته أهميتها الخاصة، فقد احتمل الاضطهاد الذي أثاره الإمبراطور مكسيموس. اكتشف هذا الإمبراطور مؤامرة محكمة تستهدف قتله، فأوهمه المقربون إليه من رجال القصر بأن المسيحيين هم المحرّضون للتآمر عليه وقتله، فصدق هذه الوشاية ولم يهدأ باله إلا بإثارة اضطهاد مروع ضد المسيحيين، ولم ينج الكهنة من هذا الاضطهاد بل كان لهم النصيب الأوفر منه. خاف الشعب على باباه الحبيب وألحوا عليه أن يهرب من هذا الاضطهاد ويختبئ، فلم يوافق البابا في بادئ الأمر، ولكنه بعد إلحاحٍ شديدٍ وافقهم على رغبتهم وترك الإسكندرية. بعدما هدأت القلاقل ونامت الفتن وتقوَّت المسيحية وكثر عدد المنضمين إليها قام البابا ياروكلاس برحلة رعوية، يفتقد المدن والقرى في أنحاء البلاد يسند المؤمنين. وكان لهذا الأمر تأثيره العجيب على المسيحيين، هؤلاء الذين احتملوا الاضطهادات المريرة. ونظرًا لزيادة المسيحيين ودخول الكثير من الجاحدين إلى الإيمان رغم كل ما كابده المسيحيون من أهوال وويلات ومن تهكّم وسخرية الفلاسفة الوثنيين ومن مرارة وظلم وبطش الحكام، شعر البابا بضرورة سيامة أساقفة لرعاية هذا الشعب المتزايد فقام بسيامة عشرين أسقفًا في أماكن متنوعة من البلاد. من أعمال هذا البابا الجليل أيضًا ليس اجتذاب الكثير من الوثنيين فحسب، بل اجتذب الجاحدين وعلمهم طريق الخلاص بالتوبة وقبلهم دون إعادة المعمودية مرة أخرى، بالاعتراف والتوبة الصادقة الحارة المعلنة جهارًا يطلبون فيها العفو، متوسلين توسلاً عظيمًا لرجوعهم إلى حضن أمهم الكنيسة المجيدة. فكان البابا ياروكلاس بهذا الأمر أبًا عطوفًا رحيمًا بأولاده الذين ضعفوا وسقطوا.
لقب بابا
أراد الشعب مع الكهنة في مصر، الذين أحبوه جدًا أن يميّزوه عن بقية الأساقفة فدعوه بالقبطية "بابا" التي تعني "أب". هكذا يُعتبر أول مسئول كنسي في العالم المسيحي يحمل هذا اللقب قبل أن يُستخدم في روما. وترى إيريس حبيب المصري أن هذا اللقب استخدم من قبل منذ أيام القديس إينيانوس الذي رسمه القديس مرقس الرسول، وذلك كما ذكر المؤرخ المقريزي. جاء في كتاب الانشقاق: أما أساقفة عواصم الولايات والأقاليم، أعنى الأولين في المطارنة كانوا يسمون "أساقفة أولين". غير أنه كان لبعضهم أسماء خاصة أيضًا منذ القديم فكان أسقف إنطاكية يسمى "بطريركا"، وأسقف إسكندرية "بابا" وأسقف روما "أسقفًا، أو"أسقف المدينة" أو "حبرًا". وأحيانا يسمى "بابا" أما كلمة "بابا" فمن الواضح أنها ليست كلمة لاتينية ولا غربية بل هي شرقية محضة. وأول من سميَ بها أسقف الإسكندرية من أبناء إيبارشيته في القطر المصري وفى الإسكندرية عينها. ويلاحظ أن لقب بابا قد امتد من الإسكندرية إلى قرطاجنة قبل روما بدليل أن كرنيليوس أسقف روما كتب في بعض رسائله التي بعث بها إلى كبريانوس أسقف قرطاجنة: "والسلام من كرنيليوس إلى البابا كبريانوس". ومن ثم امتد هذا اللقب إلى روما في القرن الخامس. وفى القرن الحادي عشر عقد غريغوريوس السابع أسقف روما مجمعًا مكانيًا حرم فيه كل أسقف يطلق على نفسه أو غيره لقب بابا، حاصرًا هذا اللقب على أسقف روما وحده.
البابا هيراقلاس وأوريجينوس
من أعمال البابا ياروكلاس عند رجوعه إلى مقر كرسيه بالإسكندرية، أنه أرسل إلى المعلم العظيم أوريجينوس خطابًا، يرفع عنه الحرم الذي وقّعه عليه البابا ديمتريوس، ويرجو منه أن يعود للإسكندرية ليعاود فيه نشاطه وخدمته الروحية والفكرية، إلا أن أوريجينوس اعتذر مشيرًا إلى أن مدرسة الإسكندرية قد ذاع صيتها، واستقرت أوضاعها، وكثر عدد أساتذتها العظماء، بينما المدرسة اللاهوتية التي افتتحها في قيصرية فلسطين لا تزال في بداية مهدها، وتحتاج لمزيد من الرعاية، ولهذا يفضل الانتظار والبقاء حيث هو على أن يرجع إلى الإسكندرية. فاقتنع البابا ياروكلاس بهذا المنطق وعيّن لرئاسة المدرسة أحد شمامسته المجتهدين يدعى ديونيسيوس، كما وكّل إليه أمر القضاء فيما يعرض للمسيحيين من مشاكل.
مع يوليوس أفريقيانوس
استطاع القديس هيراقلاس بسيرته الفاضلة لا أن يجتذب بعض الوثنيين في مصر وحدها إلى الإيمان المسيحي وإنما أيضًا اجتذب من الأجانب. فقد زاره المؤرخ الرحالة الليبي المشهور يوليوس أفريقيانوس، الذي كتب تاريخ العالم منذ الخليقة حتى عام 221 م، وآمن على يديه بالمسيحية. بعد أن اطمأن قلب البابا على شعبه ورعيته، وبعد التعب والجهاد العظيم الذي بذله من أجل محبته للسيد المسيح، انتقل البابا ياروكلاس إلى مساكن الأبرار بعد أن جاهد الجهاد الحسن وأكمل السعي، مدة ستة عشر سنة وشهرًا واحدًا وكانت نياحته في 8 كيهك سنة 247م.