أنبا يوحنا أو يوأنس أو يحنس القصير، القس ببرية شيهيت هو بخلاف أنبا يوأنس قمص
شيهيت الذي من القرن السابع، وأيضًا خلاف يحنس كاما الذي من القرن التاسع. القديس
يحنس القصير هو الأخ الروحي للقديس أنبا بيشوي، وقد تتلمذ كلاهما على يدي القديس
الأنبا بموا القمص بشيهيت. تكشف لنا سيرة هذا العظيم بين آباء البرية بوضوح عن الخط
الروحي لحياة الراهب الذي يترك العالم لا كرهًا فيه بل عشقًا في الله. فقد انسحب قلب
أبينا إلى السماويات وانشغل بالإلهيات. وفي هذا كله لم يكف عن العمل اليدوي لكي
يقدم بالحب ما أمكنه للاخوة المحتاجين. ومع سموّه الروحي الفائق كان متواضعًا
ومطيعًا. هكذا ارتبط قلبه بالله واهب الحب والتواضع والطاعة. دعوة سماوية وُلد هذا
القديس سنة 339م ببلدة طيبة بالصعيد من عائلة فقيرة، وكان أبواه تقيين جدًا وكان له
أخ أكبر، صار فيما بعد راهبًا فاضلاً أيضًا. شعر يوحنا بالدعوة السماوية وهو في الثامنة
عشر من عمره، فقام لفوره وذهب إلى القديس بموا، ورجا منه أن يتخذه تلميذًا له. وإذ
رأى الأنبا بموا حداثة سنّه طلب منه التريّث لعلّه لا يحتمل الجهاد وشقاء الحياة النسكية،
ولكن يوأنس أجابه أنه على استعداد لطاعة معلمه في كل ما يأمره به. صلى الأنبا بموا
وصام ثلاثة أيام قبل أن يقبله، وبعد هذه الأيام الثلاثة ظهر له ملاك الرب وقال له: "نِعْم ما
فعلت بقبولك الشاب يوأنس تلميذًا، لأنه سيكون أبًا لجماعة كثيرة، وسيخلص كثيرون
بسببه". فرح الأنبا بموا بهذه الإشارة الإلهية فرحًا عظيمًا ثم صلى وصام ثلاثة أيام أخرى
ثم ألبس يوأنس الإسكيم، وكان ذلك في عام 357م. جهاده الروحي درب نفسه أن
يمسك لسانه وبطنه وقلبه من أجل محبته لله. كان ينقطع عن الطعام أحيانًا لمدة
أسبوع، وإذا أكل لا يملأ معدته بالخبز. ارتبط صومه بصلواته، فكان دائم الصلاة في مغارة
تحت الأرض. كان مشغولاً على الدوام بالتأمل في الله، فلم يكن يفكر في أمرٍ ما في
العالم. ففي يوم جاءه الجَمَّال ليحمل عمل يديه ويبيعه، فلما دخل ليحضر السلال كان
مشغولاً بالتفكير حتى نسي الجمّال. قرع الجمّال الباب وتكرر الأمر، واضطر في المرة
الثالثة أن يدخل قلايته وهو يكرر: "السلال للجمّال، السلال للجمّال" حتى لا ينشغل
بالتأمل عن الجمَّال. مرة أخرى حدث هذا أيضًا مع أحد الاخوة. إذ قرع الأخ بابه للمرة
الثالثة يطلب السلال، أمسك بيد الأخ وأدخله قلايته وقال له: "خذ ما تريد وأمضِ، فإني
مشغول الآن وغير متفرغ لك". طاعته عاش يوأنس أخًا بالروح للأنبا بيشوي كوكب البرية،
وكان يوأنس مطيعًا لمعلمه طاعة تامة يؤدي كل ما يأمره به في رضا وسكون. وقد أراد
معلمه ذات يوم أن يمتحنه، فأعطاه عودًا يابسًا وقال له: "يا يوأنس ازرع هذه الشجرة"،
فأخذها منه وزرعها على الفور وظل يسقيها ثلاث سنين. أزهر بعدها هذا العود اليابس،
وتحول إلى شجرة باسقة مثمرة. وامتلأ بموا فرحًا بهذه الشجرة، وكان يقطف من ثمرها
ويقدمه للاخوة قائلاً: "ذوقوا وانظروا ما أشهى ثمرة الطاعة". وقد قضى يوأنس في
خدمة معلمه اثنتي عشرة سنة، ولما حانت ساعة انتقال المعلم جمع الاخوة وأمسك
بيدي يوأنس وقال لهم: "تمسكوا بهذا الأخ فإنه ملاك في جسم إنسان"، ثم التفت إلى
يوأنس وقال: "عِش في المكان الذي غرست فيه شجرة الطاعة". ظلت تلك الشجرة
قائمة بمنطقة دير الأنبا يحنس القمص ببرية شيهيت حتى وقت قريب، قيل أنها كانت
موجودة إلى حوالي عام 1921 أو بعد ذلك. حدث أنه كان يسكن أحد المقابر ضبعة ضارية.
فسأله الأنبا بموا أن يمضي ويأتي بها، قائلاً له: "إن أقبلتْ نحوك أربطها وقدها إلى هنا".
مضى الأنبا يوحنا القصير، وكان الوقت مساءً، فلما أقبلت نحوه الضبعة تقدم إليها فهربت
منه. سار خلفها قائلاً: "إن معلمي طلب مني أن أمسكك وأربطك". فوقفت، وأمسك بها
وربطها وأقبل بها إلى الشيخ، فتعجب الأنبا بموا. وإذ خشي عليه من الكبرياء قال
له: "لقد طلبت منك أن تحضر لي ضبعة، فمضيت واحضرت كلبًا"، وللحال أطلقها. تواضعه
كان يحسب نفسه أحقر الناس، لكن لا بروح اليأس بل بروح الرجاء في الله الذي يقيم
المسكين من المزبلة. هذا التواضع المرتبط بروح التمييز رفع أعماقه ليصير أكثر قربًا من
الله ويتمتع بغنى نعمة الله. سأله الأخوة مرة: "يا أبانا، هل يجب أن نقرأ المزامير كثيرًا"
فأجابهم: "إن الراهب لا تفيده القراءات والصلوات ما لم يكن متواضعًا، محبًا للفقراء
والمساكين". بسبب تواضعه قيل: "إن يوحنا كان يحمل شيهيت كلها بتواضعه، كما يحمل
الإنسان نقطة ماء على كفه". كما قيل أنه بسبب تواضعه اجتذب قلوب الاخوة جميعًا،
فأحبوه جدًا وكانوا على استعداد أن يعملوا كل ما يأمر به. وبسبب تواضعه اختاره الآباء
الشيوخ ليكون مرشدًا للقديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك. التقى به أحد الشيوخ وهو
في طريقه إلى الكنيسة فقال له: "أرجع إلى مكانك يا قصير !" وطرده. عاد القديس إلى
قلايته دون أن ينطق بكلمة. فتبعه الشيخ ومن معه ليروا ماذا يفعل، وعلى أثر دخوله
القلاية فاحت رائحة البخور. وسمعوا من يقول له: "احفظ نفسك يا يوحنا وداوم على
التواضع، لتكون خليلاً لابن الله". تعجب الشيخ ومن معه، ومجدوا الله، وأدخلوا القديس
الكنيسة بكرامة عظيمة. هروبه من العثرة خرج يومًا ومعه السلال ليبيعها في الريف
فقابله الجمّال وحملها عنه. وفي الطريق سمع الجمّال يغني أغانٍ بذيئة، ورأى
الشياطين حوله. لم ينطق بكلمة وإنما ترك السلال مع الجَمَّال وعاد إلى البرية. سيامته
قسًا بعد نياحة الأنبا بموا عاش يوأنس القصير مع الأنبا بيشوي بضع سنوات، وفي تلك
الفترة زار البابا ثيؤفيلس الصحراء وسيم يوأنس القصير قسًا، وعندما وضع البابا يده على
رأس يوأنس سمع الحاضرون صوتًا من السماء يقول: "أكسيوس (مستحق)". ثم لاحظ
يوأنس أن الأنبا بيشوي يميل إلى حياة العزلة فقال له: "أرى أنك مشتاق إلى حياة
العزلة مثلي، فهيّا نصلي معًا طالبين من الله الهداية". فوقف كلاهما يصليان الليل كله،
ولما حلّ الصباح ظهر لهما ملاك الرب وقال: "يا يوأنس ابقَ حيث أنت، أما أنت يا بيشوي
فارحل من هنا وأقم في قلاية على مقربة من دير الأنبا مقاريوس الكبير حيث يباركك
الرب ويوافيك باخوة كثيرين يسكنون معك". فأطاع كلاهما الأمر، وبعد ذلك تجمع عدد
وفير من الاخوة حول كل منهما واتخذوه لهم أبًا. جهاده امتاز يوأنس بصبر شبيه بصبر
أيوب، إذ كان يتحمل كل ما يلاقيه من صعاب، ويتقبل أسئلة الرهبان ومناقشاتهم بصدر
رحب، ولو كان فيها ما يوغر صدره. جاء شيخ يسأله، وكان كلما سأله عن موضوع يعود
فينساه فيعاود السؤال. وبعد مدة خجل الشيخ منه ولم يذهب إليه لكي لا يضايقه
بتكراره للأسئلة. التقى به القديس فسأله عن سبب انقطاعه، فأخبره عن السبب. عندئذ
سأله أن يحضر شمعة ويوقدها ثم طلب منه أن يحضر شموعًا ويوقدها من الشمعة
الأولى، بعد ذلك سأله: هل تظن أن الشمعة الأولى قد تأذت من هذه الشموع وهل
ضعف نورها أجابه بالنفي، عندئذ قال له: هكذا لن يؤذيني سؤالك؛ وبالحقيقة لا حرج من
ذلك، وإن جاءني جميع رهبان شيهيت، لأن تجمعهم حولي يزيدني من تقرّبي من الله.
وهكذا استطاع أن يكسب الشيخ بصبره. امتاز بتواضعه الجم فاجتذب قلوب الاخوة
جميعًا فأحبوه، وكانوا جميعًا على استعداد أن يعملوا كل ما يأمرهم به. وقد غمره الآب
السماوي بفيض من عنايته جزاء له على جهاده المتواصل في سبيل الكمال، فتجلت
هذه العناية أمام أحد الرهبان ذات يومٍ، إذ دخل عليه فوجده نائمًا ووجد عددًا من الملائكة
يحيطون به ويرفرفون عليه بأجنحتهم. أراد أبوه الروحي أن يختبره فأخرجه وقال له: "لا
أستطيع السكنى معك". وكان كل يوم يطرده قائلاً له: "اذهب من هنا"، أما القديس
يحنس فكان يصنع مطانية بتواضع قائلاً: "اغفر لي يا أبي فقد أخطأت". وظل خارج الباب
سبعة أيام وسبع ليالٍ، وفي يوم الأحد خرج أبوه قاصدًا الكنيسة، فرأى الملائكة تضع
سبعة أكاليل نورانية فوق رأس الأنبا يحنس القصير، وللوقت أسرع إليه وقبله إليه بمحبةٍ
وفرحٍ. محبته لخلاص الآخرين تبقى توبة بائيسة (سبق لنا الحديث عنها) شهادة حيّة
لاهتمام هذا الراهب المنشغل بالتأمل في الإلهيات بخلاص النفوس. ترفقه بالآخرين إذ
كان منطلقًا مع بعض الاخوة من الإسقيط ضلّ مرشدهم وكان الوقت ليلاً. قال
للاخوة: "سأتظاهر بأني تعبت ولا أستطيع المشي ونجلس إلى الصباح، لأننا إن قلنا شيئًا
للمرشد يحزن ويخجل منا". وبالفعل تظاهر بالتعب حتى حلّ الصباح فأدركوا الطريق
بوضوح. شفاء المرضى نال من الله موهبة شفاء المرضى، فجاء في سيرته الآتي: في
أحد الحقول التقى بفلاحٍ مُصاب بالبرص، وطلب منه أن يشفيه فأحضر ماءً وصلى عليه
ورسمه باسم الثالوث القدوس، فشُفي الرجل ومجّد الله. مرة أخرى جاءته امرأة بها روح
نجس كان يعذبها كثيرًا، تحنن عليها، وصلى من أجلها فخرج الروح منها وشُفيت. التقى
يومًا بسيدة عجوز طلبت منه خبزًا لها ولابنها الأعمى، فقدم لها كل ما لديه من خبز. وإذ
قدمت إليه ابنها صليّ من أجله ورشم عينيه وللحال أبصر. جاء في ذكصولوجية الأنبا
يوأنس القصير: "صرت ميناء خلاص، أقمت الأموات، وأخرجت الشياطين، وشفيت
المرضى أيضًا. استحققت يا سيدي الأب أنبا يوأنس أن تجلس مع الرسل تدين جيلك".
نياحته لما أراد الله أن يريحه من متاعب هذه الحياة ظهر له القديسون الأنبا أنطونيوس
والأنبا مقاريوس الكبير والأنبا باخوم وأعلموه بأنه سيرحل إلى دار الخلد، وفي اليوم
التالي لهذه الرؤيا رأى تلميذه روحه الطاهرة صاعدة إلى العلاء تحيط به زمرة من ملائكة
السماء. تنيّح عام 409م تقريبًا، بالغًا السبعين من عمره. تمت معجزات كثيرة بعد نياحته
مباشرة، منها أن أبوين طرحا ولدهما المفلوج على القديس فعوُفي وجرى وهو يمجّد
الله. وقيل أن شابًا به روح نجس صرخ أثناء جنازته وقال: "يا قصير، أتزعجني وتطردني
من بيتي" ثم جرى وعانق الجسد، ثم سقط على الأرض وقام معافى. نُقل جسده إلى
جبل القلزم بجوار السويس، ثم أعاده الرهبان إلى دير أبي مقار؛ ثم إلى ديره حتى تخرب
فأعيد إلى دير القديس مقاريوس، ولا يزال محفوظًا مع أجساد الثلاثة مقارات القديسين.
جاء في السنكسار الأثيوبي أن الأنبا مرقس خليفة الأنبا يوحنا الرابع أراد أن يكسو
الجسد بأكفانٍ من حريرٍ، فما أن خلع عنه كفن الليف حتى حدثت زلزلة في الكنيسة
وسقط بعض الرهبان والزوار، فأعاد البابا إليه كفنه الليف كما كان. تحتفل الكنيسة بعيد
نياحته في 20 بابه، وتذكار وصول جسده إلى شيهيت في 29 مسرى. أديرة تحمل
إسمه 1. دير أنبا يحنس القصير ببرية شيهيت بوادي النطرون. 2. دير يحنس القصير بجبل
المقطم شرقي طُرة، ويُعرف بدير البغل أو دير القصير. 3. دير يحنس القصير بجبل أنصنا
بجوار ملوي. من كلماته 1. لا يوجد شيء أنتن من الإنسان الخاطئ، فالحيوانات حفظت
رتبتها، والإنسان الذي خُلق على صورة الله ومثاله لم يحفظ طقسه. 2. لا يُسر الشيطان
بشيء مثل الإنسان الذي لا يكشف أفكاره ويعريها أمام أبيه. 3.إذا أراد ملك أن يأخذ
مدينة الأعداء، فقبل كل شيء يقطع عنهم الشراب والطعام وبذلك يذلون فيخضعون له،
هكذا آلام الجسد إذا ضيّق الإنسان على نفسه بالجوع والعطش تضعف وتتذلل له. 4.
كن حزينًا على الذين هلكوا، كن رحيمًا على الذين طغوا، كن متألمًا مع المتألمين، مصليًا
من أجل المخطئين. 5. التواضع ومخافة الرب هما أعظم جميع الفضائل. 6. الزم القراءة
أفضل من كل عملٍ، لأنه ربما دار العقل في الصلاة، أما القراءة فإنها تجمعه. الراهب
القمص سمعان السرياني: سيرة وأقوال يحنس القصير، ببربة شيهيت، 1981.
بركة صلاتة تكن معانا