ܡܪܝ ܐܦܪܝܡ ܣܘܪܝܝܐ القديس مار افرام وجه حضاري كبير ومشرق للكنائس الناطقة بالسريانية ،وللكنيسة الجامعة .فالتراث الديني الوافر ،الذي خلفه في مجالات الطقوس واللاهوت والتصوف والروحانيات ،يؤلف كنزاً فريداً نعود إليه ،لما يحتويه من روح
عميقة وأصالة ناصعة ،لا سيما في عصرنا ،حيث الكل يبحث عن هويته وخصوصيته القومية والفكرية .
حياته :كانت نصيبين أيام أفرام ،مدينة حدودية من الدرجة الأولى ،تخضع لسيطرة الفرس الساسانيين تارة والرومان تارة .ومنذ أن أبرمت بينهما معاهدة الصلح سنة 297 ،جعلت نصيبين مركزا للتبادل التجاري .وهذا الوضع المتميز شجع الحركة الثقافية ،فالتقت حضارة ما بين النهرين بالتيارات الفكرية اليونانية ،كما كانت ملتقى للأديان.فكان فيها ،فرق وثنية متأصلة ،وجالية يهودية .
هناك العديد من تراجم حياة افرام ،منها القديم ومنها الحديث ،ومعظمها مشحون بالتناقضات والأساطير ،إلا أن النقد العلمي الدقيق توصل إلى معلومات أكيدة مقتبسة من كتابات افرام ،ومن تمحيص وغربلة النصوص التاريخية القديمة .بموجبها يكون قد أبصر افرام النور في مدينة نصيبين نحو سنة306 من والدين مسيحيين ((إني ولدت في طريق الحق ،ولو إن صباي لم يحس بذلك))(ضد البدع 26/10 )،وليس من أم مسيحية ديار بكرية وأب كاهن للصنم ابيزال كما يقال عادة(1).
تتلمذ ليعقوب أسقف نصيبين ،ونال منه العماد وعمره ثمانية عشر عاما،حسبما كانت تقتضيه التقاليد
الكنسية آنذاك .لم يكن افرام راهبا ناسكا بالمعنى الحصري المألوف ،إنما كان منتميا إلى جماعة العهد المنتشرين في ما بين النهرين ،المندمجين في النشاطات الراعوية.وإذ توسم فيه يعقوب ،أسقف المدينة ،توقد الذهن والتقوى والغيرة،رسمه شماسا إنجيليا دائميا(ضد البدع56/10 ).وعهد إليه التعليم الديني في مدرسة نصيبين ،ومن هنا أتاه اللقب الشارح والمرب.
راح افرام في المدرسة وخارجها يعّد البالغين ((الموعوظين))لاقتبال العماد ،شارحا لهم بأسلوب مشوق ومباشر حقائق الإيمان وقواعد الأخلاق المسيحية .وظل في مهمته حتى بعد وفاة يعقوب أي في زمن خلفائه بابو(338 ـ 343)،وولغاش (343 ـ 361 )،وابراهيم (361 ).وعندما غزا شابور الثاني مدينة نصيبين عام 363 وسقطت في يده ،غادرها افرام مع جمع غفير إلى الرها القريبة ،والتي كانت تحت سيطرة الرومان ،وكانت مركزا مسيحياً وثقافيا مهما .
في الرها اتبع مع المعلمين اللاجئين أسسا جديدة للتدريس بسبب الظروف التي صادفوها هناك .ففي هذه الفترة كان اتباع آريوس ومرقيون وماني والغنوصية وتلاميذ برديصان يُعيثون فساداً،وتستغل الجالية اليهودية الوضع لصالحها .فأخذ افرام ومعاونوه على أنفسهم مهمة الذود عن الإيمان القويم .وهذا الطابع الدفاعي ،الهجومي نستشفه من قراءتنا لميامره .
في الرها ألف ،ربما لأول مرة في تاريخ المسيحية ،جوقة ترتيل مؤلفة من الفتيات ((العذارى))علمهن خدمة الطقوس وتأدية التراتيل الشجية التي كان يكتبها ويضمنها حقائق الإيمان والآداب ،وكثير من هذه التراتيل لا يزال مستعملا في الكنائس الناطقة بالسريانية اثناء صلواتها الرسمية .يقول افرام:
((لقد لبستن المجد في الماء مثل إخوتكن ،ومعهم،من نفس الكأس قد نلتن الحياة الجديدة ،ونفس الخلاص حصل لكن ولهم،فلماذا لا تتعلمن أن تمجدن بصوت عال؟))
عندما حلت المجاعة بأهالي الرها عام372 ـ 373 إنبرى أفرام الشماس يدير عملية جمع المعونات لإسعاف المعوزين .فراح هو وتلاميذه يوزعون الطعام والثياب على الفقراء ،ويجدون مأوى للمشردين
وبسبب المجاعة الشديدة والبرد القارص انتشر مرض الطاعون في المنطقة .فأودى بحياة العديدين من ابناء المدينة ،واهتم افرام بأمر دفنهم في مقبرة الغرباء ،الكائنة في ظاهرها .وعلى أثر التعب والسهر تمرض افرام ومات في 9 حزيران373 .وقد أعلنه البابا بندكتس الخامس عشر في 5/10/1920 ملفان الكنيسة الجامعة .
لقد حيكت ،حول حياة افرام ،قصص وأمور نادرة ،بغية ابراز مكانته وشهرته،ينبغي تصنيفها أجناسا
أدبية "Literary Genre ".فلكي يعبر كاتب قديم عن قداسة بطله ،يجعله يجتاز تجربة أخلاقية عنيفة،ولإظهار شهرته وسعة علمه،يجعله يسافر ويلتقي بمشاهير رجال العلم والتقوى في زمانه .هذا الأسلوب كان مألوفا عند المؤرخين القدامى ،وحول هاتين النقطتين الرئيسيتين:القداسة والشهرة تدور معظم هذه القصص التي تعود في اعتقادي إلى القرنين الخامس والسادس .
تروي هذه القصص إن قيم الكنيسة المدعو أفرام ،اقترف منكرا مع إحدى الفتيات ،وانجبت منه
طفلا ،فنسبت الأمر إلى افرام الشماس .ولكن القديس أخذ الطفل إلى الكنيسة ،اثناء الصلاة واستحلفه أمام الجميع بأن يعلن من هو أبوه ،فما كان من الصبي سوى أن يصرخ:أبي هو افرام قيم الكنيسة .وهكذا ظهرت الحقيقة وعلا شأن مار افرام .وهناك قصص أخرى تدور حول نفس المحور.
ولإبراز شهرته وبيان مكانته الدينية ،تجعله هذه القصص يحضر مجمع نيقية المنعقد سنة325 برفقة يعقوب أسقف نصيبين .ويلتقي بالقديس باسيليوس أسقف قيصرية كبدوكيا(330 ـ379 ).
كذلك قضية سفره إلى مصر ،وزيارته لبيشوي أحد اقطاب الرهبنة المصرية ،ترمي هي الأخرى إلى تثبيته راهباً ،ناسكاً ومتصوفاً،في حين نعلم أن الحركة الرهبانية ،بشكلها الحصري والنظامي الموحد في كنيسة المشرق ،تعود إلى القرن السادس ـ السابع.
مهما كان الأمر ،فإن افرام ،طوال خمسين سنة،خدم الكنيسة السريانية واعظاً ومعلماً ومنشّطاً للطقوس وأدبياً غزير المادة ،وشاهداً صادقاً لكنيسته القريبة من أصولها السامية الصافية.
تآليفه :ترك لنا افرام مؤلفات عديدة ،شُبّهت ببحر كبير يعسر البلوغ إلى حافاته .يقول القديس هيرونيمس (+430 ): ((أفرام شماس كنيسة الرها ،ألّف كتباً مثيرة في اللغة السريانية ،وقد بلغ من الشهرة والتوقير أن بعض الكنائس تتلو ما كتبه على الشعب ،في الكنائس بعد تلاوة منتخبات من الأسفار المقدسة ،وقد طالعت في اليونانية كتابه في الروح القدس مترجماً عن السريانية ،ووجدت فيه قمة الذكاء السامي في الترجمة أيضا (كتاب الرجال المشاهير115 ).
إن عادة اسناد نصوص مكتوبة إلى كتاب مشاهير كانت عادة جارية في العصور القديمة ،لذا نسبت إلى افرام نصوص دينية كثيرة ،ولا نذكر من مصنّفاته إلا ما أثبته النقد العلمي ،ونُشر بطريقة رصينة دقيقة .
تُقسم مؤلفات أفرام إلى منثورة ومنظومة .المنثورة عبارة عن تفاسير لمختلف أسفار الكتاب المقدس:
فله تفسير لسفر التكوين والخروج والأناجيل الموحدة ((دياطسرون))وأعمال الرسل ورسائل بولس ،
وقد قام بنشرها ريمون تونوولويس للوار واكينيان .أما المنظومة فهي:
1-الميامر: وهي مواعظ شعرية على بحر واحد ،تتناول العقيدة والأخلاق المسيحية .وقد نشر قسماً كبيراً منها المستشرق ادموند بيك في ((مجموعة الكتبة المسيحيين الشرقيينCSCO )) في لوفان ،بنصها السرياني مع ترجمة المانية أو لاتينية:الجزء الأول رقم305/306 سنة 1970،والجزء الثاني رقم311/312 سنة 1970 ،الجزء الثالث رقم 320/321 سنة1972 ،الجزء الرابع رقم 334/335 سنة 1973 ،وميامر في أسبوع الآلام رقم412/413 سنة 1979 وكان قد نشر ميامر عن الإيمان رقم 212/213 سنة 1961 ،وميامر في ربنا رقم 270/271 سنة1966 ،ونشر كرافن ميامر في المائدة في الشرق السرياني عدد 4 سنة 1959 .
وميامر في نيقوديمس نشره ش .رينو في الباترولوجيا الشرقية مجلد 37 جزء 2 سنة1975 .
2-المداريش :وهي ترانيم منظومة على أوزان الشعر المختلفة ،وملحّنة.فهي أشبه بموشّحات روحية من أناشيد عادية ،وتدور حول مواضيع كتابية وإيمانية وأخلاقية،وكانت جوقته الكنسية تنشد معظمها خلال الرتب الدينية والاحتفالات.
درس هذه الترانيم أدموند بيك في سلسلة ((مجموعة الكتبة المسيحيين الشرقيين))وهي على الترتيب التالي: الإيمان رقم154/155 سنة1955 ،ضد البدع رقم 169/170 سنة1957 ،والفردوس وضد جوليان رقم 174/175 سنة 1957.ترجم هذه الأناشيد إلى العربية الاب روفائيل مطر بعنوان: ((منظومة الفردوس ))،الكسليك1980 ضمن سلسلة أقدم النصوص المسيحية ،كما هناك ترجمة للمطران كوركيس كرمو ((أناشيد الفردوس))بغداد 1989،الميلاد والدنح رقم 186/187 سنة 1959 ،الكنيسة198/199 سنة1960 ،ترانيم نصيبينية رقم 218/219 سنة1961 ورقم240/241 سنة1963 ،البتولية223/224 سنة 1962 .وكان كرافن قد نشر قسماً منها في الشرق السرياني عدد 6 سنة 1961،الصوم رقم246/247 سنة 1964 و الفصح 248/249 سنة 1964
وقد ترجم الأب يشوع الخوري أناشيد الميلاد ،ونشرها مع نصّها السرياني ،الكسليك 1994 ،وكان قد نشر ((مختارات من أناشيد افرام))بيروت 1973 .نشر السمعاني وبيكل وموريس ولامي والرحماني واخرون جانباً كبيراً من كتابات افرام ،إلا إنها طبعات غير علمية.
لأفرام مؤلفات أخرى غير مثبتة في مخطوطات مكتبات لندن وبرلين وباريس والفاتيكان وغيرها .
أسلوبه :أسلوب أفرام بسيط ومباشر ،ولغته صافية من الألفاظ اليونانية ،تفسيره لأسفار الكتاب المقدس قريب من الاتجاه الرابيني ،أي يأخذ بالمعنى الحرفي لينطلق إلى التطبيقات في الحياة اليومية .لذا يستخدم كثيراً أسلوب الرموز والصور والمقارنات.لاهوته بعيد عن المناظرات اللاهوتية ،وتستولي على القارئ الدهشة أمام غنى حساسية أفرام ،مثل سائر آباء الكنيسة ،بمدى حاجة المسيحيين،بكافة مستوياتهم ،
إلى تعليم رصين ومتين ،وإن مستقبلهم يتوقف أساساً على نوعية ثقافتهم،وجدّية عيشهم إيمانهم ،وقد
قام بهذه المهمة بثلاث طرق واضعاً مواهبه في خدمتهم :
1-الموعظة :وكانت أنجح وسيلة للتعليم والتأثير ،إذ كان المؤمنون يفدون إلى الكنيسة ،لا فقط ليصلّوا وإنما ليتعلّموا بعض الشيء عن إيمانهم وسبل عيشه، فراح أفرام يعطيهم دروساً في الصلاة وفي تأويل نصوص الكتاب المقدس ،والغالبية لا تملك نسخة منه ،ويشرح لهم عقيدة إيمانية أو عيداً دينياً أو يدحض تعليماً يراه غير سليم ،ويحذّرهم بشدة من المشاركة في احتفالات الوثنيين وسماع أساطيرهم.
2-تعليم الموعوظين:ما عدا الموعظة ،كانت وظيفته كشماس:تعليم الكبار المهتدين إلى المسيحية ،
واعدادهم لنيل العماد .وكان هذا النوع من التعليم يتطلّب مقدرة فريدة وسرعة بديهة،إذ أن هؤلاء المهتدين كانوا يحملون خلفيات دينية وفكرية مختلفة ،وكان عليه أن يجيب على جميع أسئلتهم.
3-مدرسة الرها :انصب اهتمام افرام على إعطاء طلاب المدرسة التي أسسها أولا في نصيبين ثم في الرها ،ثقافة عميقة .وقد أعطت المدرستان كنيسة ما بين النهرين كبار قادتها ومفكريها .