الفصل الثالث
الأبعاد اللاهوتية للفرض البيزنطي:
إن الفرض الإلهي، بالنسبة للكنائس ذات التقليد البيزنطي، هو "المكان اللاهوتي" الأمثل للإيمان الرسولي. يحتوي القداس الإلهي الكرازة الرسولية ويعلنها بتأوينه حدث الخلاص. ولكن يمكن القول إنَّ الشعب المؤمن يحصل على التعليم الديني الذي يفصِّل كرازة الرسل، بالمجاهرة به، لمجد الآب. ففي الليتورجية، وهنا خاصة في الفرض الإلهي، يصبح تدبير الخلاص لاهوتاً وحياة. ما يلفت النظر أن النصوص العقائدية الوحيدة، التي ترسم قواعد الإيمان الأرثوذكسي، قليلة نسبياً، ولكنها مكثفة جداً وغنية: قانون الإيمان النيقي – القسطنطيني، والقرارات العقائدية للمجامع المسكونية السبعة، ومجمعا فوتيوس، ومجامع القرن الرابع عشر حول عقيدة القديس غوريغوريوس بالاماس.
في الواقع، وهذا أمر مميِّز حقاً للتقليد البيزنطي، تكوَّن الفرض الليتورجي في الحركة ذاتها التي كوَّنت عقائد المجامع الكبرى. فمراحل النمو هي ذاتها: خريستولوجية (العقائد المتعلقة بشخص السيد المسيح) وثالوثية (العقائد المتعلقة بالثالوث القدوس) وإيقونوغرافية (العقائد المتعلقة بالصور المقدسة) وأسرارية (أي ما يتعلق بالأسرار) وروح قدسية (العقائد المتعلقة بالروح القدس) وإكليسيولوجية (العقائد المتعلقة بالكنيسة المقدسة). وأكثر من ذلك، هناك تفاعل بين صلاة الساعات والتعمق العقائدي، خاصة من خلال الأديرة، التي تعتبر الصلاة المتواصلة موهبتها الخاصة: مثل أديرة سيناء، والقديس سابا، واستوديون، وجبل آثوس. لقد استقت الترانيم البيزنطية من المجامع الكبرى إلهامها وإبداعها، وهي تترجم العقائد المجمعية إلى صلاة، وبهذا توجِّه وتحفظ إيمان الشعب القويم. والمجامع، تلك الأحداث الحقيقية التي أنجزها الروح القدس، عمَّقت وجددت صلاة الكنيسة وروحانيتها. إن كتابة السير المقدسة ورسم الأيقونات المقدسة يستندان الواحد إلى الآخر ويتكاملان ليظهرا الكرازة الإنجيلية الواحدة. وتفاعلهما هو النسيج الحي للفعل الليتورجي. وبهذا المعنى القوي جداً والعضوي، يمكن القول إن الفرض البيزنطي هو تعبير حقيقي أصيل للتقليد الرسولي الحي المقدس.
يعبَّر عن هذه الأبعاد الرسولية بشكلها الأوضح في الترانيم: الأرثوذكسية، أي الإيمان القويم، تعبِّر عن ذاتها في "الذوكسولوجية" (التمجيد)، عندما يشيد الروح والكنيسة، للآب وللعالم، بعظائم مجده التي حصلت في تدبير كلمته المتجسد.
نجد في فرض الأحد، بالإضافة إلى أعياد السيد والسيدة الكبرى، روائع هذه الذوكسولوجية اللاهوتية. يكفي أن نشير مثلاً بنوع خاص إلى "ثاوطوكيات" (الغروب) المسماة بحق عقائدية بسبب إرتباطها بالمجامع الخريستولوجية، وإلى الأناشيد الخاصة بتمجيد الروح القدس المسماة "أنافثمي" التي تسبق إنجيل القيامة في السحر، حيث يتكثَّف لاهوت الروح القدس البيزنطي. من جهة أخرى، تختتم كل حلقة ترنيمية بالمجدلة الثالوثية.
من هذا الحصاد الترنيمي الغني تبرز باستمرار ثلاثة طوابع، يرجع الواحد منها إلى الآخر، وهي: التجسد والصليب والقيامة أي الشركة مع الآب والإبن المعلنة والمبلغة في الروح القدس. وفي هذا يتحقق الحدس الأساسي للتقليد البيزنطي الذي شدد عليه القديس مكسيموس المعترف، وخلاصته أن تدبير الكلمة المتجسد، بالليتورجية، ينمو ويتطوَّر في اللاهوت.
لجهة التجسد، اللاهوت الروحي البيزنطي هو اساساً خلقدوني، حتى في نتائجه النهائية الحاسمة. "صار ابن الله إنساناً لكي يصير الإنسان إبناً لله". فالطروباريات البيزنطية كلها تقريباً مشيدة عل هذا النسق المفلوق: الإلهي والبشري "متحدان بدون إختلاط أو إمتزاج ومتمايزان بدون انفصال".
من هنا نتيجة "إخلاء الذات" الحاصل في التجسد: نزل الإبن الحبيب إلى أعمق أعماق الموت، ليحرر من الموت أبناء الله الذين استعبدتهم الخطيئة. فالصليب هو، وبشكل غير منقسم، ظهور إلهي وظهور بشري. وعند "ساعة يسوع" يكشف الله الحي ذاته، على أنه ملء الحب، وذلك بأخذه من الإنسان كل شيء فيظهر بذلك أن الإنسان لا يكون إنساناً إلا باشتراكه في حياة إلهه.
واكتمال مفارقة التجسد، عبر الصليب المحيي، هو أن الإنسان يقوم من الموت في مجد الآب. اللاهوت هو "معرفة" الآب، أي الإشتراك في حياته بالإتحاد مع الإبن الوحيد إتحاداً محوِّلاً، وهذا هو العمل الرائع للروح القدس. إن الطروباريات التي تمجِّد شركة الآب والإبن والروح القدس وتشيد لها، هي تلك التي نجد فيها أكثر قدر من الأنوار المسلطة على خفايا القلب البشري، التي تنيره بـ "صافي نور المعرفة الإلهية". الحركة الخلفية، أو بالأحرى الحركة في العمق، للفرض البيزنطي هي تأوين قوة القيامة التي دخلت إلى العالم بالتجسد، وتجلَّت على الصليب، وانتشرت في الروح القدس. وتبدأ هذه الخليقة الجديدة في شركة القلوب المطهَّرة.
الفصل الرابع
الأبعاد الكنسية للفرض البيزنطي
إن الجماعة المصلية هي شركة الثالوث القدوس تتقبلها وتحياها القلوب المطهَّرة. هي تكوُّن الخليقة الجديدة في أحشاء العالم القديم على خطى المجامع الكبرى، وضمن خطّها. لا يعبر الفرض البيزنطي عن "إكليسيولوجية" نظرية، بل عن إكليسيولوجية معاشة. لقد استشعرنا ذلك أعلاه، عبر الواقعية الأسرارية لصلاة الساعات، يكفي أن نشدّد الآن على العلامات المميزة لهذا البعد الكنسي.
أولاً: الطابع المريمي:
أكثر ما يسترعي الانتباه هنا هو بالتأكيد الطابع المريمي للفرض البيزنطي، وذلك في ضوء المجامع الخريستولوجية، وخاصة مجامع أفسس وخلقيدونية ونيقية الثاني. إن والدة الإله والكنيسة، في الفرض البيزنطي، متداخلتان الواحدة في الأخرى. فهما، بفعل مشترك مع الروح القدس، تظهران وتؤونان وتبلّغان تدبير الكلمة المتجسد. مريم هي سر الكنيسة في ملء الأزمنة، والكنيسة تكمّل سر والدة الإله في الأزمنة الأخيرة. وهما تظهران المسيح. تفعل ذلك والدة الإله بطريقة فريدة وحيدة، وتفعله الكنيسة بطريقة عامة. فهي تشكّل مَتنَ صلاة الساعات ولُحمتها: المرأة، الأم، العروس، العذراء، تابوت العهد، الهيكل، قدس الأقداس...
إننا نحتفل بالفرض الإلهي أمام الإيقونستاس حيث تقوم على جانبي الأبواب المقدسة أيقونة المسيح وأيقونة والدة الإله، فمعظم تعابير الصلاة تصعد من قلب مريم على شفتي الكنيسة: الابتهال، الشفاعة، الستر، البركة... فوالدة الإله، الأيقونة الكاملة والحية للكنيسة، تظهر دائماً، بعد تمجيد الثالوث القدوس، في نهاية كل حلقة من حلقات صلاة الساعات، من خلال طروبارية يقال لها "ثاوطوكيون". يوم الأربعاء، اليوم المكرّس بنوع خاص لذكرى الصليب وذكرى والدة الإله. فالثاوطوكيات وقوانين والدة الإله، بالإضافة إلى رتبة "الأكاثستوس" أي المدائح التي تقام في الصوم الكبير، ورتبة الباراكليسي التي تقام في الأسبوعين اللذين يسبقان عيد رقاد والدة الإله، هي "أمكنة لاهوتية" حقيقية، أو بالأحرى "محطات لاهوتية"، للبنفماتولوجية والأنثروبولوجية. وما الإكليسيولوجية إلا خلاصة لهما معاشة في الصلاة.
ثانياً: الطابع الاسخاتولوجي:
الطابع الثاني لهذا البعد الكنسي هو الطابع الاسخاتولوجي. فلأن الأزمنة الأخيرة قد دشنت بالقيامة وبحلول الروح القدس، أصبح ملكوت الله في حالة أسرارية، والكنيسة هي السر. وبسبب هذه الواقعية الأسرارية، تشترك صلاة الساعات في الليتورجيا السماوية.
إحدى الأيقونات الأكثر تعبيراً عن الدينامية الإسخاتولوجية لصلاة الكنيسة هي بدون شك أيقونة الابتهال، حيث تظهر والدة الإله مع "السابق" يوحنا المعمدان، يحيطان بالمسيح الممجد، ويقدمان له بأيديهما المفتوحة البشرية المنتظرة مجيئه الثاني. تكشف هذه الأيقونة للجماعة المصلية ما يجب عليها أن تعيشه في صلاة الساعات: أي أن تحمل أمام المخلّص أنين الخليقة كلها في أنّات الروح القدس التي لا يعبّر عنها، وأن تعجّل بذلك مجيء الرب.
في ضوء ما تقدّم يكشف البعد الكنسي للفرض البيزنطي معناه الكامل: فصلاة الساعات تعبّر أسرارياً عن الصلاة الملحّة للمسيح القائم من الموت، التي تلخّص كل شيء (أفسس 1/10) أمام وجه الآب، وتفيض روحه المحيي على كل شيء: الكون والزمن، الخليقة التي ترى والتي لا ترى، القوات الملائكية وجميع البشر، القديسين والخطأة، الأحياء والأموات.
في الحقيقة، الكنيسة هي "كون العالم" كما يقول أوريجانوس، وبصلاتها يستمر العالم حياً في الضابط الكل. إنتصر الحبّ على الموت، غلب الموت، وهذا ما تعلنه وتحققه صلاة الساعات.
وإن جاز أن نختم هذا العرض بأمنية، أمنية كنسية أيضاً، نقول: لماذا يكون مثل هذا الكنز مهملاً إلى هذه الدرجة، ولا يعرفه المؤمنون والرعاة، ولا يقدرونه حق قدره، في حين أن الفرض الإلهي، كان عبر الأجيال غذاء الإيمان؟ الفرض الكنسي هو مائدة عرس الملكوت، فلماذا ينتظر أبناء الملكوت على الباب؟...
_________________