خرجت لمى وجلست عند شاطئ البحر، فاليوم هو إجازتها الأسبوعية، وبينما هي غارقة في ذكريات الامتحانات الجامعية التي قدّمتها إذ بشخص يقترب منها ويتفرس فيها طويلاً، ثم يحييها ويجلس بجوارها وهو ما زال يتفرّس فيها. التفت لمى بارتياب ودهشة نحو هذا الرجل الذي استمر يتأمل فيها، ثم بادرها بالحديث قائلاً: "حقاً ما أجمل وجهك اللطيف وعينيك المتبسمتين، فأنا رسّام أبحث عن إنسان يصوّر البراءة والابتسام"، ثم أخرج الفنان ورقة بها عنوان وحدّد الزمان وقال لها: "أتمنى أن تحضري إلى معرض رسومي ..." ووعدها بهديّة قيمة
ذهبت لمى حسب الاتفاق إلى المعرض وبعدما رسم الفنان صورتها أهداها شالاً من لون عينيها الجميلتين. وكان هذا اليوم من أسعد أيام لمى ليس فقط لأنّها أخذت هديتها بل لأنّ الاختيار وقع عليها لتكون صورة للبراءة والجمال والابتسام
وبعد مرور سبعة أعوام من الزمان كان هذا الفنّان في نفس المكان يبحث عن وجه إنسان يعبّر عن الخوف والهوان، فإذ بفتاة تأتي وهي تمشي بخطواتٍ ثقيلة، ولمّا اقتربت منه لاحظ نظرات القلق والحيرة في عينيها الغائرتين ووجهها الشاحب الحزين يحكي عن جرح قلبها الدفين، فتقدّم الفنان نحو هذه الفتاة وقال لها: "أنا رسّام وأرسم صوراً تعبّر عن حياة الشباب وهواجسهم" ثم أخرج ورقة بها عنوان وقال للفتاة: "أتمنى أن تحضري في المكان ووعدها بهدية قيمة". انفجرت الفتاة بالبكاء والنحيب لمّا سمعت هذا القول بينما نظر الفنان إليها في ذهول، وسألها: ماذا هناك؟ فأجابت الفتاة وهي تحاول أن تتمالك دموعها: "ألم تتذكرني؟" فنظر الرسام متأملاً فيها من دون جواب، وتابعت القول: "إنّي أعرفك فأنا لمى الذي رسمتني منذ سبعة أعوام صورة للبراءة والجمال والابتسام، والآن ترى فيّ نموذجاً صالحاً للألم والشقاء، أليس كذلك؟". وفي أسف وأسى شديدين تذكّر الرسام لمى وسألها بإشفاق: "ماذا حدث لك يا بنيّتي؟ ماذا أصابك حتى تبدين بكلّ هذه الكآبة والحزن؟" فأجابت لمى بكلمة واحدة وأخذت ترددها: "إنّها الحياة..."
إنّ الضغوط والأزمات تزداد في حياتنا يوماً بعد يوم، وكلما تقدّم بنا الاتكال على المدنيّة المعاصرة زادت الضغوط والصعوبات الحياتية، وأمامها هناك من يتعاملون معها بصورة إيجابية إذ يعتبرونها فرصاً للنمو والنضج، وهناك من يتعاملون معها بصورة سلبية فيُصابون بالقلق والتوتر وعدم الاتزان، وموقفهم السلبي هذا يجعل كل هذه الظروف تسيطر عليهم أكثر، أمّا الذين يحتملون أزماتهم بصورة إيجابية فسوف تجلب لهم فرصاً للنمو والنضج. فالاتكال على اللّه يسهل أيام اليسر والبحبوحة ولكنّه يصعب في العسر والشدّة، غير أن إيماننا لا يقوى ولا يزداد إلاّ عن طريق التجارب والأزمات فلذلك نجد الرب دوماً في سفينتنا الحياتية مستعداً للنجدة ولخلاصنا، فهو من قال "لنجتز إلى العبر" (مر35:4) ولم يقل "لنقلع إلى وسط البحيرة فنهلك غرقاً"
وللأزمات فوائد وبركات، فبدل المحاولات الفاشلة للتخلّص أو التهرّب منها يجب أن نبحث عن فوائدها للتعلّم، فكما أنّ الجفاف يُجبر جذور الشجرة أن تتعمق أكثر لتحصل على الماء هكذا الأزمات ترغمنا أن نرفع عيوننا إلى قلوبنا وتجعلنا أناساً ذوي عمق ومعدن نادرَين. فالأزمة بحدّ ذاتها لا تهلك بل لها أن تدفعنا إلى تعميق العلاقة مع اللّه والآخرين ومع أنفسنا فتصبح بذلك أداة اللّه في تشكيل شخصياتنا ونموها. فالبحر الهادئ أبداً لا يصنع بحاراً مسؤولاً ممتازاً
وفي وسط الألم والعناء نحتاج دوماً إلى كلمة تعيد الأمل وتحيي الرجاء إلى نافذة من نور تبدد الظلام والقتام، فنفوسنا ضعيفة تصغر أمام المشكلات الصعبة المعقدة. والرجاء انتظار وتوقع الخير الآتي لأنّه "لابدّ للحارث أن يحرث راجياً" (1كور10:9)، وهذا الرجاء ليس محكوماً بالظروف السائدة والإمكانيات المتاحة ولا يتوقف على ما نملكه وما نستطيع القيام به، لكنّه يتوقف على الإيمان باللّه ومقداره وعمقه "التجئوا إلى التمسك بالرجاء المعروض علينا. فهو لنا مرساة للنفس أمينة متينة تخترق الحجاب" (عب18:6-19)
إنّها الحياة مليئة بالصعاب والظروف الصعبة ولكن شكراً للّه الذي بتدبيره منحنا الخلاص بصليب ابنه الوحيد يسوع المسيح ليموت بدلاً عنّا ويعطينا حياة السماء ويعيننا ويرثي لضعفاتنا. هو يسوع بكلّ حنانه وحبّه يأتي إليك في ظروفك الصعبة ليحلّي لك الحياة ويعين المجربين ويعطي نعمة لهم في وسط ظروفهم الأليمة. فلا تجزعوا فهناك تعزية لنا وخلاص بشخص ربنا يسوع المسيح