"خلق الله الإنسان على صورته ومثاله" ، وعندما دعاه إلى الوجود حباً به، دعاه في الوقت عينه إلى الحب. والله لا يمكنه أن يخلقه إلا هكذا، لأنه محبة. "فالحب هو الدعوة الأساسية لكل كائن بشري تولد معه عندما يولد" . فمن كان مستعداً لأن تستولي عليه عطية المحبة، ويثبت في المحبة، يحيا في أخلاق توفر له نجاح إنسانيته، وفيها يجد هويته الفردية ومكانته الاجتماعية. فالمحبة هي مسلك أخلاقي يحرّر الإنسان ويمنحه السعادة. فيها يسير في طريق توجهه نحو غاية حياته .
كتب القديس بولس أجمل وأقوى تعبير عن المحبة في ما يسمى "نشيد المحبة" وهنا لا يدور الكلام أولا على محبة القريب. ففي البداية يتجه النظر إلى البعد الديني:"لو كنت أنطق بألسنة الناس والملائكة، ولم تكن فيّ المحبة، فإنما أنا نحاسٌ يطن، أو صنج يرن". إن سلوكنا تجاه الله لا يستند إلى مواهب خارقة، كالنبوة، ومعرفة الأسرار الإلهية، والإيمان الذي ينقل الجبال، بل إلى المحبة. فبدونها، ليس الإنسان "بشيء". فالمحبة وحدها تعطي كل عمل قيمته. وتقوم المحبة في معرفة إله المحبة، ومعرفة يسوع المسيح، الذي أحبنا فبذل نفسه عنا وتمتد المحبة إلى العلاقات بين الناس: "المحبة تتأنّى وترفق؛ المحبة لا تحسد؛ المحبة لا تتباهى، ولا تنتفخ؛ لا تأتي قباحة، ولا تطلب ما لنفسها؛ لا تحتد، ولا تظن السوء". تنبذ تصرفات خاطئة: التباهي، الانتفاخ من التكبر، عمل ما هو قبيح، السعي وراء المصلحة الشخصية، الغضب، الحقد على السوء. المحبة تتجاوز الميول النفعية والهدامة، وفي الوقت عينه تعملُ على تغيير الإنسان بامتصاص الشر القابع فيه. وهي تمنح الصبر والصلاح وتهبُ الفرح بالحقيقة، وتحتملُ المحن وتثبتُ في الخيبات. هنا يتكلم القديس بولس بلغة شعرية، يظهر فيها تأثره وحماسه. وقد اختبر هو نفسه ما هي المحبة وما تستطيع أن تحققه.
من الله الذي أحبنا أولاً تأتي كل محبة؛ ولكنها تصل إلينا بوساطة الناس. لذلك من المهم أن نختبر منذ طفولتنا الأولى محبة الناس لنا، سواء أكان الوالدان أم أشخاص آخرون ينحنون علينا بما لديهم من محبة وعطف.
الطفل الذي يعرف أنه مقبول ومحبوب يستطيع أن يكتسب الثقة الأصلية بنفسه وبالناس وبالعالم، وأن يسير على طريق حياته كما على طريق من المحبة. من اختبر المحبة، هذا وحده يستطيع أن ينقل المحبة.
في زمن الفتوة، ينتقل المراهق من حماية سن الطفولة إلى زمن البالغين، الذي هو زمن التقرير الذاتي والتحقيق الذاتي. وإذّ ذاك أيضا تحدث نزاعات مع مطالب الوالدين والمربين، فإن فُرضت على الفتى أمورٌ لا يرى جدواها، يحصل الاعتراض والرفض. وفي هذه الحالة، ينبغي أن يتحلى البالغون بالشعور والتفهم والصبر والحلم. وعلى المربين أن تكون روح المحبة دافعهم الدائم. بهذه الطريقة وحدها يمكن أن يُعلّم الأطفال والشبان الاحترام ومراعاة الآخر والتسامح. وحيث يسود بين شبان وأترابٍ لهم الحسدُ، والخصامُ، والانتباذ والكرهُ، يجب أن يقودهم اعتبارُ قيمة الآخر إلى إدراك أنه لا يجوز استثناء أحد من المحبة.
محبة جميع الناس والمسؤولية الاجتماعية يمكن إيقاظهما باكراً، وخصوصا للفقراء والجائعين، والمعاقين والمرضى. الشبان منفتحون على الضيق والبؤس في العالم. وعندما يسمعون في الإنجيل أن يسوع قد جاء ليشفي المرضى ويُحررَ المسجونين، ويخلص المعذبين ، يمكن هذا أن يفتحَ أعينهم على المحبة التي يكرز بها يسوع. مثل يسوع ومثل أولئك المسيحيين الذين يكرسون حياتهم لخدمة الفقراء والمتألمين في العالم، يحرك القلب أكثر من الكلمات والإرشادات العديدة. يستطيع الشبان، استناداً إلى مثال غيرهم، أن ينموا في موقفٍ لا يسعى إلى الخير الخاص، بل أيضاً إلى خير الآخرين. يستطيعون أن يدركوا أنهم، في محبة الناس، يستطيعون أن يلتقوا الله الذي من محبته تنشأ المحبة للناس.
أما البالغون فتواجههم مشكلات الحياة المهنية والعامة، ومشكلات التنظيم الصحيح للعمل وأوقات الفراغ وللحياة الزوجية والعائلية. والعلاقة بين الجنسين مع البحث عن شريك، والارتباط الوثيق بشريك أو شريكة، ولا سيما في الزواج، كل هذا يتوجه إلى الإنسان في سياق كلمة "الحب" السحرية، ويؤثر عليه بقوة جاذبية عميقة. أما بالنسبة إلى المسيحيين فمهمتهم تقوم هنا على أن يحيوا الحب بين الرجل والمرأة في النظام الذي يتوافق مع دعوتهم.
المحبة المسيحية تتضمن أيضاً الحب الطبيعي بين الرجل والمرآة. وينبغي أن تتحقق بحسب صورة الإنسان المستوحاة من أمرين: خُلق الإنسان، رجلاً وامرأة، على صورة الله، وكوّن العلاقة الزوجية المسيحية على مثال العلاقة بين المسيح والكنيسة ؛ وتنطوي هذه المحبة أيضاً على الاحترام المتبادل بين الأشخاص والأمانة الثابتة أحدهما للآخر. إن رفض يسوع للطلاق يُقصد منه حماية الجماعة الزوجية. والزواج نفسه هو للزوجين مدرسة محبة بما يتطلبه من سعادة متبادلة في الناحيتين الجسدية والروحية.
مإذا يعني أن نحب شخصاً حباً صحيحاً؟
عندما يحب شخصان بعضهما بعضاً عن حقٍ وحقيقة فهما يتعهدان أن يكبرا وأن يستمرا في الحياة وأن يتعرفا إلى بعضهما كما لم يعرفهما أي إنسان من قبل. الحب ليس أعمى، بالعكس فهو يفتح العيون، من دون شك، هناك وضوح مُحزن: أن نحكم على شخص من أجل ماضيه، ولكن هناك وضوح يمكن للحب وحده أن يمنحه وهو أن نكتشف ما يمكن لإنسان أن يصبح في المستقبل. لقد أحببتما بعضكما، لأنكما قد بدأتما تخلقان بعضكما.
الحب الحقيقي هو حضور مترقب مستعد دائماً للخلق والاكتشاف، فلا يمكنك أن تقول لشخص نفس الشيء مرتين، لأن المرة الثانية تكون أقل صدقاً من المرة الأولى، لأن الأشخاص يتغيرون مع الوقت؛ يجب عليكم إذن خلق عنصر جديد في المرة الثانية. إذن تصوروا عدد المرات التي يجب عليكم من خلالها أن تبتكروا طريقة جديدة لتقولوا لزوجاتكم أو لأزواجكم إنكم تحبونهن! فهذا يقتضي مجهوداً كبيراً.
الناس لا يكبرون إلا عندما يحبون. أن نحب شخصاً، ذلك يعني أن نحب إنساناً قادراً أن ينمو ويكبر بصورة لا متناهية. مع الأسف! كم من العائلات تتحول لتكون مكاناً نقتل فيه أنفسنا بكل سهولة. نحن نعرف بعضنا، ولا نؤمن بإمكانية تغيير، ولا نتجاوب مع أي تقدم. فكل واحد منا، يرى محاولة الآخر في هذا المجال شيئاً سخيفاً بالمقارنة مع الحاجة الكبيرة، فلا يستقبلها وحتى إنه لا يلاحظها. نلاحظ جيداً ما لا يفعله الشريك الآخر، لكننا لا نلاحظ ماذا يفعل.
فالحب هو قوة خلاقة ولا عجب في ذلك فالإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله والله هو الخالق، وأول فعل محبة من الله للإنسان هو الخلق؛ فعلى الإنسان أن يكون خلاقاً على صورة خالقه. وفي حياتنا اليومية، علاقاتنا وكلماتنا تأخذ اتجاهين: فإما أن تكون خلاقة، أو تكون قاتلة؛ ماذا نفعل بالكلمة؟ هل نحن نخلق؟ أم كلمتنا تقتل؟ ونتيجة لذلك فالإنسان يموت أيضاً عندما لا يخلق ولا يحب.
إذا قمنا بفحص ضمير هو التالي: أليس جميلاً التوصل إلى مخاطبة أنفسها حتى ولو كنا ملزمين أن نعترف ونقر إننا لم نعد نملك حيوية الحياة فنقول: "لم أتوقف عن حبك إلا لأني توقفت عن العيش، فأنا الذي توقف عن الوجود، عندما توقفت أن أكون ذلك الشخص الذي كان يدعوك إلى الحياة، والذي كان ينظر إليك بإعجاب، ذلك الشخص الذي كان ينتظرُ كل شيء منكِ. ذلك الإنسان الذي كان باستطاعتكِ أن تغمريه بأشعة الحياة والفرح". وأما الوعد الوحيد والإخلاص الوحيد الذي يمكننا امتلاكه، أعتقد أخيرا، أنه التالي: "أريد أن أبدأ من جديد باستعادة حياتي لأبدأ من جديد بحبك".
خلال ثلاثين سنة، يمكننا أن نقول أن السيد المسيح أعطانا المثل الصالح وبعد ثلاثين سنة، لاحظ أن أحداً لم يلاحظه، فهو لم يختبىء طوال ثلاثين سنة كما يعتقد البعض، لا يختبىء الإنسان ليعود فيتجلى، لقد عاش إنساناً عادياً طبيعياً، لكن بعد مرور ثلاثين سنة، لم يلاحظه أحد. لقد كانوا مائتين كفاية أولائك الذين كانوا من حوله، عندئذ ظل طوال ثلاث سنوات يتكلم ويبشر ويشرح تعاليمه. هناك نساء أيضا يبقين طوال ثلاث سنوات يتكلمن إلى أزواجهن من دون أن يستمع هؤلاء إليهن. بالنسبة لهؤلاء الرجال فليس لديهم قط أي مشكلة، إذا فتحوا أفواههم فلكي يقولوا أن ليس لديهم قط أي شيء ليقولوه. إذن قال يسوع: "هذا غير ممكن! ماذا يمكننا أن نفعل بعد؟ نحن بحاجة إلى شيء أكثر عمقاً. يجب أن أمنحهم الحياة، فأقوالي وأمثالي وعجائبي كلها غير فعالة، يجب أن أنفخ الحياة فيهم، يجب أن أحبهم كثيراً جداً لأجعلهم أحياء ("واجبي الوحيد تجاه زوجتي وأولادي هو أن أظل حياً وكذلك واجبي الوحيد تجاه زوجي وأولادي هو أن أكون امرأة حية وألا أدع نفسي تموت، فهم بحاجة إلى شخص ينبض بالحياة، شخص يهتم بهم، شخص لا يزال يفتش وينتظر، ويعيش بالأمل، ولا يدع نفسه تموت") "فأعطاهم نعمة الحياة، نَقَلَ إليهم الحياة، نعمة حياته".
ماذا يعني أن تصبح أباً؟ أو أن تصبحين أماً؟
قال أحدهم " كثير من الرجال لهم أولاد، لكن قليلٌ من الأولاد عندهم أب". سوف أتحدث عن الأبوة، ولكن من دون شك، عندما أتكلم عن الأبوة، فأنا أتكلم ضمناً عن الأمومة.
يبدو لي أن الحب الأمومي والحب الأبوي يتخطيان بعمقهما وبزخمهما كل أنواع الحب الأخرى، وحتى إنهما يتخطيان الحب الزوجي، وهذا الأخير يستند إليهما ويتشبه بهما بما يملك من الحسنات الفضلى ومن التجرد.
الزوجة الحقيقية هي أم تعطي الحياة لأولادها باستمرار في هذا العالم لتعيدهم إلى أنفسهم وتعرفهم إلى العالم المجهول وتمنحهم الثقة بالحياة، فيجب عليها كذلك أن تخلق زوجها من جديد وذلك عندما تضع ثقتها به وما دامت تساعده وتدعمه وتأمل خيراً به، فهذا الرجل هو إنسان محظوظ سوف يتوصل أن يثق بنفسه. والزوج الحقيقي هو من يخلق زوجته من جديد فكم من مرة تستعيد وهي بين ذراعيه ثقتها بنفسها، وأملها وشجاعتها فهما يتعاضدان ليستعيدا حياتهما، ويستطيعان وهما يخدمان بعضهما بعضا أن يؤمن كل واحد ما هو بحاجة إليه وما يعجزُ أن يقوم به بمفرده.
أن أكون أباً ... أن أكون أماً: هو إنسان يريد أن يكون هناك أشخاص يمدهم بوجوده وبفرحه بالحياة وينعشهم بحياته ويُبهجهم ويعلمهم مذاق فرحته بالذات وهو أن يكونوا بدورهم آباء وأمهات. أنت تعطي أولادك المحبة ليصبحوا بدورهم أباً وأماً، هذا ما فعله الله معنا. الله الذي هو أب وهذا الكائن البريء الذي خلق العالم من أجل أن يكون هناك كائنات يُمكنه أن يمدها بوجوده، بكرمه وبفرحه. فالله خلق العالم ليبرهن إلى أي مدى يعرف أن يحب، أرسل ابنه ليتجسد وقمة الخلق هي الصلب، لقد أرانا الله إلى أي مدى يعرف أن يحب، لم يكن لديه أي هدف آخر.
الأبوة أو الأمومة هي أن تظهروا إلى أي مدى تعرفون أن تحبوا، إلى أي مدى تعرفون أن تخلقوا وإلى أي مدى تعرفون أن تخدموا بالحقيقة. الأبوة هي روحية بقدر ما هي جسدية، كل واحد منا مدعو أن يصبح أبا وأما، وذلك من أول الحياة إلى آخرها. ليس هناك أي حدود لهذا الخصب الروحي. فلو دخلتِ الدير لقالوا لكِ: أيتها الأم. وإذا وضع شخص ثقته بي ككاهن لقال لي: اغفر لي يا أبتِ لأني أخطأت.
عندما أراد الله أن يدعو إبراهيم هل تعلمون ماذا فعل؟ لم يعطه درساً في الديانة ولم يلقِ عليه عظة دينية ولم يطلب إليه رياضة روحية، لقد جعله "أبا" لقد جعله يقوم بتجربة وجودية. جعله يفهم ما معنى أن الله أاب. ولما أراد الله أن يجعل منه أباً يعرف كل معنى الأبوة، أطلعه على كل أسرار قلب الله، جعلَ منه أباً قادراً أن يتخلى عن ابنه وان يجعل ذلك يتخطاه بمعنى آخر. اسحق لم يمت لكنه مر عبر الموت والقيامة هذا ما جاء في رسالة القديس بولس إلى العبرانيين(11/17)
إن الشبه الموجود بينكم وبين الله والذي لا يُمحى أبداً هو ما قاله السيد المسيح: "إذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تكونوا صالحين مع أولادكم فكيف بالأحرى أباكم الذي في السماوات؟" لديكم هنا شيء لا يمحى، شبهٌ بالله لا يؤثر فيه الزمن.
جرّبوا ذلك مع الأولاد غير المنضبطين، الأولاد الذين يصعب إقناعهم. فإذا حاولت أن تكلمهم عن الله الآب، فهذا آخر شيء يهمهم. فما الوسيلة ؟ حسب رأيي يجب أن نجعلهم مسؤولين عن أشخاص آخرين وأن يختبروا معنى الأبوة والأمومة الحقة. استشيروهم
خاتمة
إن علاقاتنا مع الآخرين هي التي تحدد كل قيمتنا الإنسانية والدينية. فالإنسان ليس لديه أثمن من علاقات الحب التي تربطه مع الآخرين. يقول أحد المختصين في علم النفس التربوي:"قصة كل واحد منا هي قصة، كونه محبوباً وحبه قبل كل شيء في العائلة، فالإنسان لا يصبح إنساناً إلا من خلال إنسان".
أخيراً أن نكون مسيحيين جيدين ونعيش مفهوم العائلة مدرسة حب قد يبدو مشروعاً أكبر من طاقتنا ولكن يسوع لا يقف موقف المتفرج أمام هذا التحدي فهو معنا ليحوّل ضعفنا إلى قوة.