قصص ميلاديّة
الشجرة
كان يا ما كان.. كان أطفالٌ فقراء، بائسين جداً، لم يكن بإمكانهم لا شراء شجرة عيد الميلاد ولا تزيينها. جلسوا في ليلة العيد أمام نافذة بيتهم الذي يشبه
الكوخ، والغصة مخنوقة في حلوقهم، والدمعة محبوسة في مآقيهم تكاد تنهمر. الكآبة تعصر قلوبهم، والحزن الشديد يلفّ كيانهم.
- "كيف نحتفل بعيد الميلاد .. ماذا نقدّم لطفل المغارة؟" كانوا يظنون أن الشجرة وزينتها هما العيد، هما التعبير عن الفرح بقدوم الطفل يسوع، هما الهدية له!..
- "إننا فقراء! لا هدية عندنا!.. ولا عيد!.. سوف يأتي يسوع.. ماذا نقدّم له؟.. كيف نفرح به ونفرحه؟"..
- "ما العمل؟"..
كعادة الفقراء في الشدّة، ركعوا يصلّون بشدّة.. ويبكون بشدّة.. يوجد أمام بيتهم شجرة كبيرة. فجأةً!.. نزل عليها سرب من العصافير الملّونة الجميلة وعششت في أغصانها، وأخذت ترقص وتغني.
لقد كانت تبحث عن مكانً آمن تحتمي به فرأت أن شجرة الأولاد هي أنسب بيت لهذه الليلة. لقد صارت الشجرة جميلة جداً جداً!.. فرح الأولاد بالشجرة والزينة الملّونة التي تطير وتغني وترقص..
مُسحت دموعهم.. ها هي هديتهم للطفل يسوع.. ها هو عيدهم. بقي الأطفال طوال ليلة الميلاد أمام الشجرة. والعصافير أيضاً بقيت أمامهم تغني وترقص وتتنقل بين الأغصان. وعند الصباح، طارت العصافير، وعادت الشجرة إلى حالتها السابقة، ولكن فرح العيد استمرّ في الأولاد طويلاً.
(عن أغنية لفيروز)
العيد
كان يا ما كان.. كان إيفان يعمل حذّاء في إحدى القرى الروسية القديمة وكان يستعد كل سنة قبيل عيد الميلاد لاستقبال هذا العيد بقراءة الكتاب المقدس والتأمل في حضور الله من خلال أحداث حياته والأشخاص الذين يلتقي معهم وبينما كان يعمل في دكّانه ويفكر ويتأمل في معاني هذا العيد خطر على باله هذا السؤال:" لماذا لا يأتي يسوع هذه السنة لزيارتي؟.. نعم في دكاني؟.." وبدأ إيفان ببساطته المعهودة ينتظر زيارة يسوع بفارغ الصبر ليلة الميلاد.. وبينما هو يفكّر كيف يستعد لاستقبال يسوع.. وماذا يمكن أن يقدّم له حين يأتي.. شاهد من نافذته سيدة متعبة تحمل طفلها فأسرع إليها وأدخلها إلى دكانه ليحميها من البرد.. واستقبل أيضاً رجلاً وخفف من غضبه. وصالح رجلاً مع طفل تخاصم معه.. وقدّم الهدايا التي في صندوقه الخاص إلى طفلين فقيرين فأدخل الفرح إلى قلبيهما.. وجاءه كنّاس الشوارع متعباً فاستقبله هو الآخر بفرح.. "لقد تأخر الضيف"!.. قال إيفان في قلبه. وبدل أن يأتي يسوع كان "المتعبون والمثقلون بالهموم" يتوافدون عليه.. لقد استقبل الجميع ببشاشة وقدّم لكل منهم قدر ما أمكنه.. وها هي أجراس الكنائس تقرع في منتصف الليل لتعلن حلول عيد الميلاد، فهل يذهب إلى قدّاس العيد بعد أن خاب أمله في لقاء يسوع؟..
وفجأةً!.. امتلأ إيفان بفرح كبير.. كأن نوراً من السماء قد أشرق في قلبه.. فنهض.. وانطلق إلى الكنيسة.. وبينما هو ذاهب أخذ يقول في نفسه: "لقد أتى يسوع لزيارتي حقاً.. نعم لقد التقيت به.. لقد ولد في قلبي هذا العيد أيضاً.. وأخذ يتذكر ويردد أقوال يسوع: "تعالوا يا مباركي أبي.. رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم.. لأني جعت فأطعمتموني.. وعطشت فسقيتموني.. وكنت غريباً فآويتموني.. وعرياناً فكسيتموني.. ومريضاً فعدتوني.. وسجيناً فزرتموني.."
المجوسي الرابع
كان يا ما كان في قديم الزمان، كان ملكٌ يعيش في قصرٍ جميل. وكان هذا القصر مليئاً بالتُحَف والكنوز، ولكنه كان مُغلقاً دوماً. وكان هذا الملك هادئاً مسالماً مرتاحاً لدرجة أنه يتجنّب الناس والناس لا يأبهون له.
يوماً من الأيام، بعد سكون النهار وإطلالة الليل، وبينما كان مستلقياً على سطح قصره يمعن النظر كعادته في السماء الساطعة بالنجوم، لمحَ نجماً كبيراً وغريباً. وبعد أن بحث في كتبه القديمة عن مدلولات هذا النجم وما يقدِّم من علامات، شعر بأنه كان ينتظر إطلالة هذا النجم منذ زمن طويل، إنه يُبشِّر بميلاد ملكٍ عظيم! فنهض حالاً، وكأنه سمع صوتاً في داخله يقول له: "قم.. وانطلق!".. قام وفتح أبواب قصره المغلق دوماً، فانهالت عليه أكوامٌ من غبار الماضي السحيق وكأنه أوقظ من غفوته.
ترك حياته المألوفة الساكنة والمريحة، وانطلق يتبع النجم. أخذ معه كنوزه وتُحفه وكل ما يلزمه لهذه الرحلة: معطف الفرو الثمين، كيس الذهب، جَمَلَهُ الصبور، ثيابه الفاخرة، حذاءه الصلب، قطعة حريرٍ نسجها يوم تعلّم مهنة تقيه من العوَز كعادة أبناء الملوك، ومع إناء العسل أخذ أيضاً بعض الزاد والنقود وكل ما حفظه وخبأه طيلة أيام سكونه.
انطلق يسير على هدي النجم الغريب، حيث كانت عيناه شاخصتين إليه بشغف. سار طويلاً كمن يقفز في المجهول! ابتعد عن حدود مملكته وأخذ يكتشف، في رحلة بحثه عن الملك العظيم، آلامَ الناس وتطلعاتهم. فحاول أن يشاركهم حياتهم، ويخفف بؤس المتعبين منهم مقدّماً لهم ما عنده من كنوز وتُحف. لن ينسى ما حدث في بدء رحلته لمّا استيقظ على صوت بكاء طفل! ورأى من بعيد فتاةً في ربيع شبابها قد ولدت هذا الطفل، وحيث لم يوجد مكان لولادتها لجأت إلى إسطبلٍ باردٍ مظلم.
أسرع الملك إلى المغارة يهديه نورٍ عظيم محاطٍ بأنغام ملائكية، لم يتنبه من أين جاءه. انحنى إلى المذود حيث كان الصبي مضجعاً فيه إذ لم يكن هناك سرير في الإسطبل. مدَّ رأسه مع الحمار والثور اللذين كانا دهشين من رؤية هذا الطفل، فرفع حاجبيه واغرورقت عيناه وفتح فاه وشاركهما الدهشة لرؤية طفل المغارة، ولفّه بقطعة حرير الملوك. واستغرق مشهد تلك الليلة ثلاثين عاماً، كان خلالها يتنقل بين الناس، يشاركهم حياتهم كأنه واحد منهم. أخذ الملكُ يمشي ويمشي متتبعاً نجمه اللامع.
ويوماً من الأيام، بعد سنواته الثلاثين، وبينما كان يسير في البرية، لقي شخصاً مُثخناً بالجراح، مطروحاً على قارعة الطريق، قد اعتدى عليه اللصوص وسرقوه وجرّحوه وتركوه بين حي وميت. فاقترب منه وأسعفه وصبَّ على جراحه زيتاً وخمراً وحمله وأخذه إلى فندقٍ واعتنى بأمره وأوصى صاحب الفندق به قائلاً: "مهما تُنفق عليه أنا أدفعه لك عند عودتي". وفي يومٍ آخر لقي فقيراً مُهملاً جائعاً يشتهي أن يأكل الفُتات ولم يعطه أحد، لا بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه.
ففتح الملك جعبته وأطعمه زاده وأخرج مالاً من كيس نقوده وقدَّم إليه. ولقي أيضاً شحّاذاً أعمى عارياً يقفز من البرد فخلع عنه معطفه ووشّحه به. وقدّم شيئاً من العسل لنادمٍ عائدٍ إلى أبيه كان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب. ودفع فديةً كبيرة عن شاب يضربه عبيد أبيه ليستولوا على ميراثه، وأهداه حذاءه الصلب ليتابع سيره الصعب.
وسمع مرّة خطبة عظيمة تصدر عن إحدى الهضاب، حفظ عن ظهر قلب كلمة واحدة منها تردّدت: "طوبى". ورأى ثلاثة شبّانٍ كان هو رابعهم في حمل مُقْعَد. وتذوّق خمرةً لذيذةً جداً في عرسٍ مرّ به. والتقى امرأة حدَّثته بصدق عن تاريخ خطاياها كأنها نبعٌ متفجّرٌ من الحياة. ولم يستطع أن يتفوّه بكلمة لشابٍ حزين مُثقلٍ بالمال.
وقدَّم بتعففٍ مجاني قارورة طيبٍ خالصٍ كثير الثمن لامرأة حاولت إغواءه. واشترك في فكَّ عقالات الكفن عن ناهضٍ من الموت بعد أربعة أيام.. وهكذا توالت الأيام، والملك يُتابع مسيره، وهو يُقدّم لمن يلقاهم ما حمله في جعبته. وكان النجم يزداد تألقاً فوق رأسه كأنه سَعَف نخلٍ أو أغصان زيتون. وفي إحدى الليالي اختفى النجم! وأخذ الشك يتغلغل إلى قلب الملك وعقله. لقد قدّم حريره الملوكي لابن الفتاة، ومعطفه للشحّاذ، وزاده للجائع، وطيبه للمرأة، وحذاءه الصلب للوارث، وذهبه وماله.. لم يبقَ عنده شيء سوى ما بقي في إناء العسل. فاستلقى على الأرض وليس له حجرٌ يسند إليه رأسه.
وقرّر أن يستعيد راحته التي اعتادها يوم كان في قصره. فنوى أن يتنعّم بما تبقّى عنده من عسلٍ بعد غفوة قصيرة. ولكن، حدث ما ليس في الحسبان، إذ انقضَّ النحل يلتهم العسل في أثناء غفوته. وأخذ، في صحوته، يلسعه بشدة، مما دفع الجَمَلَ إلى الهرب. وبعد اكتمال يقظته وجد الملكُ جَمَلَهُ، رفيق رحلة بحثه عن ملك الملوك، طريحاً لا حراك فيه، فاستولى الحزن واليأس عليه. وامتلأ من شعور الثورة. فجأة!.. عاد النجم وتألق فوق رأسه، ولكن الملك لم يأبه له.
تابع المسير، ولكن هذه المرة دون هدف.. ودون حِمْل.. دون كنوز أو تُحَف.. انطلق لا يعرف إلى أين يتوجّه أو لماذا يمشي!؟.. أتراه نَسي ملك الملوك كما نُسي هو في مملكته "المألوفة، الهادئة، الساكنة، المسالمة، المريحة.."؟ وفيما هو سائر رأى حشداً من الناس كحشد أفكار يأسه. وجوههم تشبه وجوه بشرٍ ينتمون إلى القارات كلها.
رآهم يتجهون إلى خارج مدينة جميلة. يصرخون بأصوات عالية خشنة. حاول أن يفهم لغتهم، إنها تشبه لغات العالم بأسره.. يبدو أن الخشونة تنتمي إلى كل الحضارات!.. تتبّعهم حتى قمة تلّ. وفي الطريق سخّروه أن يحمل خشبةً ثقيلة بعد أن ظنّوه، لشدّة تعبه وإرهاقه، فلاحاً عائداً من الحقل. وبعد لحظة، لمحَ هناك ثلاثة صلبان منتصبة.
ولمّا رأى الإنسان المعلق في الوسط، كمن يعتلي العرش، أسرع إليه، وكأنه يعرفه منذ زمن بعيد والتقاه مرات كثيرة، رغم أن وجهه لا منظر له، مشوّه بالألم، مختفٍ بين خطوط الدم وبقع التراب والبصاق. انحنى الملك على قدميه المثقوبتين وقبلهما طويلاً، وسكب عليهما دموع فرح اللقاء، وأدرك حالاً أن هذا الإنسان هو الملك الذي كان يبحث عنه طيلة أيام حياته، فقرر ألا يُفارقه بعد الآن. وفي اليوم الثالث، انطلق يحمل "البشرى"..
الرعاة
كان يا ما كان.. كان رعاة يبيتون في البرية، يتناوبون السهر في الليل على رعيتهم. فحضرهم ملاك الرب وأشرق مجد الرب حولهم، فخافوا خوفاً شديداً. فقال لهم الملاك: "لا تخافوا، ها إني أبشرّكم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كلّه: وُلد لكم اليوم مخلّص في مدينة داود، وهو المسيح الرب. وإليكم هذه العلامة: ستجدون طفلاً مقمّطاً مضجعاً في مذود".
وانضمّ إلى الملاك بغتةً جمهور من الجند السماويين يسبحون الله فيقولون: "المجد لله في العلى! وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة!".. فلما انصرف الملائكة عنهم إلى السماء قال الرعاة بعضهم لبعض: "هلمّ بنا إلى بيت لحم فنرى ما حدث، ذاك الذي أخبرنا به الرب".
وجاؤوا مسرعين، فوجدوا مريم يوسف والطفل مضجعاً في المذود. ولما رأوا ذلك جعلوا يخبرون بما قيل لهم في ذلك الطفل. فجميع الذين سمعوا الرعاة تعجّبوا مما قالوا لهم. وكانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور، وتتأملها في قلبها. رجع الرعاة وهم يمجّدون الله ويسبّحونه على كل ما سمعوا ورأوا كما قيل لهم.
__________________